فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (38- 39):

قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أنتج هذا التسهيل لما كان استصعبه صلى الله عليه وسلم والتأمين مما كان خافه، عبر عن ذلك بقوله مؤكدًا ردًا على من يظن خلاف ذلك: {ما كان على النبي} أي الذي منزلته من الله الاطلاع على ما لم يطلع عليه غيره من الخلق {من حرج فيما فرض} أي قدر {الله} بما له من صفات الكمال وأوجبه {له} لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقًا حرج في ذلك، فكيف برأس المؤمنين، فصار منفيًا عنه الحرج مرتين خصوصًا بعد عموم تشريفًا له وتنويهًا بشأنه.
ولما كان مما يهون الأمور الصعاب المشاركة فيها فكيف إذا كانت المشاركة من الأكابر، قال واضعًا الأسم موضع مصدره: {سنة الله} أي سن الملك الذي إذا سن شيئًا أتقنه بما له من العزة والحكمة فلم يقدر أحد أن يغير شيئًا منه {في الذين خلوا} وكأنه أراد أن يكون أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام أولى مراد بهذا، تبكيتًا لملبسي أتباعهم فأدخل الجار فقال: {من قبل} أي من الأنبياء الأقدمين في إباحة التوسيع في النكاح لهم، وهو تكذيب لليهود الذين أنكروا ذلك، وإظهار لتلبيسهم.
ولما كان المراد بالنسبة الطريق التي قضاها وشرعها قال معلمًا بأن هذا الزواج كان أمرًا لابد من وقوعه لإرادته له في الأزل فلا يعترض فيه معترض ببنت شفة يحل به ما يحل بمن اعترض على أوامر الملك، ولأجل الاهتمام بهذا الإعلام اعترض به بين الصفة الموصوف فقال: {وكان أمر الله} أي قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره من كل ما يستحق أن يأمر به ويهدي إليه ويحث عليه، وعبر عن السنة بالأمر تأكيدًا لأنه لابد منه {قدرًا} وأكده بقوله: {مقدورًا} أي لا خلف فيه، ولابد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه، وهو مؤيد أيضًا لقول زين العابدين وكذا قوله تعالى واصفًا للذين خلوا: {الذين يبلغون} أي إلى أمهم {رسالات الله} أي الملك الأعظم سواء كانت في نكاح أو غيره شقت أو لا {ويخشونه} أي فيخبرون بكل ما أخبرهم به ولم يمنعهم من إفشائه، ولوّح بعد التصريح في قوله: {وتخشى الناس} {ولا يخشون أحدًا} قلَّ أو جلَّ {إلا الله} لأنه ذو الجلال والإكرام.
ولما كان الخوف من الملك العدل إنما هو من حسابه كان التقدير: فيخافون حسابه، أتبعه قوله: {وكفى بالله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {حسيبًا} أي مجازيًا لكل أحد بما عمل وبالغًا في حسابه الغاية القصوى، وكافيًا من أراد كفايته كل من أراده بسوء. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} يعني كان شرع من تقدمه كذلك، كان يتزوج الأنبياء بنسوة كثيرة أبكار ومطلقات الغير {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} أي كل شيء بقضاء وقدر والقدر التقدير وبين المفعول والمقدور فرق مقول بين القضاء والقدر، فالقضاء ما كان مقصودًا في الأصل والقدر ما يكون تابعًا له، مثاله من كان يقصد مدينة فنزل بطريق تلك المدينة بخان أو قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول لم جئت إلى هذه القرية؟ إني ما جئت إلى هذه وإنما قصدت المدينة الفلانية وهذه وقعت في طريقي وإن كان قد جاءها ودخلها وإذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر، فالله تعالى خلق المكلف بحيث يشتهي ويغضب، ليكون اجتهاده في تغليب العقل والدين عليهما مثابًا عليه بأبلغ وجه فأفضى ذلك في البعض إلى أن زنى وقتل فالله لم يخلقهما فيه مقصودًا منه القتل والزنا وإن كان ذلك بقدر الله إذا علمت هذا ففي قوله تعالى أولا: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا} وقوله ثانيًا {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} لطيفة وهي أنه تعالى لما قال: {زوجناكها} قال: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا} أي تزويجنا زينب إياك كان مقصودًا متبوعًا مقضيًا مراعى، ولما قال: {سُنَّةَ الله في الذين خَلَوْاْ} إشارة إلى قصة داود عليه السلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} أي كان ذلك حكمًا تبعيًا، فلو قال قائل هذا قول المعتزلة بالتوليد والفلاسفة بوجوب كون الأشياء على وجوه مثل كون النار تحرق حيث قالوا الله تعالى أراد أن يخلق ما ينضج الأشياء وهو لا يكون إلا محرقًا بالطبع فخلق النار للنفع فوقع اتفاق أسباب أوجبت احتراق دار زيد أو دار عمرو، فنقول معاذ الله أن نقول بأن الله غير مختار في أفعاله أو يقع شيء لا باختياره، ولكن أهل السنة يقولون أجرى الله عادته بكذا أي وله أن يخلق النار بحيث عند حاجة إنضاج اللحم تنضج وعند مساس ثوب العجوز لا تحرق، ألا ترى أنها لم تحرق إبراهيم عليه السلام مع قوتها وكثرتها لكن خلقها على غير ذلك الوجه بمحض إرادته أو لحكمة خفية ولا يسأل عما يفعل، فنقول ما كان في مجرى عادته تعالى على وجه تدركه العقول البشرية نقول بقضاء، وما يكون على وجه يقع لعقل قاصر أن يقول لم كان ولماذا لم يكن على خلافه نقول بقدر.
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} يعني كانوا هم أيضًا مثلك رسلا، ثم ذكره بحالهم أنهم جردوا الخشية ووحدوها بقوله: {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله} فصار كقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} الأنعام: 90 وقوله: {وكفى بالله حَسِيبًا} أي محاسبًا فلا تخش غيره أو محسوبًا فلا تلتفت إلى غيره ولا تجعله في حسابك. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: فيما أحله الله له من تزويج زينب بنت جحش، قاله مقاتل.
الثاني: التي وهبت نفسها للنبي إذ زوجها الله إياه بغير صداق ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد تطوع عليها وأعطاها الصداق، قاله الحسن.
الثالث: في أن ينكح من شاء من النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع لأن اليهود عابوه بذلك، قاله الضحاك.
قال الطبري: نكح رسول الله خمس عشرة، ودخل بثلاثة عشرة، ومات على تسع، وكان يقسم لثمان.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} السنة الطريقة المعتادة أي ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء وفي المرأة التي نظر إليها وتزوجها ونكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرّية.
{وَكَانَ أَمُرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} فيه وجهان:
أحدهما: فعلًا مفعولًا، قاله الضحاك.
الثاني: قضاء مقضيًا وهو قول الجمهور. وكانت زينب إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا تصلح طعامه وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر ضي الله عنه وهي أول امرأة حملت على نعش لأن عمر قال حين ماتت: واسوأتاه تحمل أم المؤمنين مكشوفة كما يحمل الرجال فقالت أسماء بنت عميس: يا أمير المؤمنين إني قد كنت شاهدت في بلاد الحبشة شيئًا فيه للمرأة صيانة ووصفته له فأمر بعمله فلما رآه قال: نِعم خباء الظعينة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ما كان على النبيِّ مِنْ حَرَجٍ فيما فَرَضَ اللّهُ له}.
قال قتادة: فيما أَحَلَّ اللّهُ له من النساء.
قوله تعالى: {سُنَّةَ الله} هي منصوبة على المصدر، لأن معنى {ما كان على النبيِّ مِنْ حَرَج} سنَّ اللّهُ سُنَّة واسعة لا حَرَج فيها.
والذين خَلَوا: هم النبيُّون؛ فالمعنى: أن سُنَّة الله في التَّوسعة على محمد فيما فرض له، كسُنَّته في الأنبياء الماضين.
قال ابن السائب: هكذا سُنَّة الله في الأنبياء، كداود، فانه كان له مائة امرأة، وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سُرِّيَّة، {وكان أمر الله قَدَرًا مقدورًا} أي: قضاءً مقضيًّا.
وقال ابن قتيبة: {سُنَّةَ الله في الذين خَلَوا} معناه: لا حَرَجَ على أحد فيما لم يَحْرُم عليه.
ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله: {الذين يبلِّغون رسالات الله ويخشَوْنه ولا يَخشَون أَحدًا إِلاَّ اللّهَ} أي: لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أُحِلَّ لهم.
وباقي الآية قد تقدم بيانه النساء: 6. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ}.
هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة.
أعلمهم أن هذا ونحوه هو السَّنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحلّه لهم؛ أي سَنّ لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سُنّة الأنبياء الماضية؛ كداود وسليمان.
فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سُرِّية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرِّية.
وذكر الثعلبيّ عن مقاتل وابن الكلبيّ أن الإشارة إلى داود عليه السلام؛ حيث جمع الله بينه وبين من فُتن بها.
و{سُنَّةَ} نصب على المصدر؛ أي سَنّ الله له سُنة واسعة.
و{الَّذِينَ خَلَوْا} هم الأنبياء؛ بدليل وصفهم بعدُ بقوله: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ} أي ما صحَّ وما استقامَ في الحكمةِ أن يكونَ له ضيقٌ {فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي قسمَ له وقدَّر، من قولِهم فرضَ له في الدِّيوانِ كذا ومنه فروضُ العساكرِ لأعطياتِهم {سُنَّةَ الله} اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ كقولِهم تُربًا وجنَدْلاَ مؤكد لما قبلَه من نفيِ الحرجِ أي سنَّ الله ذلك سُنَّةً {فِى الذين خَلَوْاْ} مضَوا {مِن قَبْلُ} من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ السَّلامُ حيثُ وسَّع عليهم في بابِ النِّكاحِ وغيره ولقد كانتْ لداودَ عليه السَّلامُ مائة امرأة وثلاثمائة سرّية ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأةٍ وسبعمائةِ سُرِّيةٍ وقولُه تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} أي قضاءً مقضيَّا وحُكما مبتوتًا. اعتراضٌ وُسِّط بين الموصولينِ الجاريينِ مجرى الواحدِ للمسارعةِ إلى تقريرِ نفيِ الحَرجِ وتحقيقِه.
{الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله} صفةٌ للذين خَلَوا أو مدحٌ لهم. بالنَّصبِ أو بالرَّفعِ. وقُرئ رسالةَ الله {وَيَخْشَوْنَهُ} في كلِّ ما يأتُون ويذرُون لاسيما في أمرِ تبليغِ الرِّسالةِ حيثُ لا يخرمُون منها حرَفًا ولا تأخذُهم في ذلكَ لومةُ لائمٍ {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله} في وصفِهم بقصرِهم الخشيةَ على الله تعالى تعريض بما صدَرَ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الاحترازِ عن لائمةِ الخلقِ بعد التَّصريحِ في قولِه تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} {وكفى بالله حَسِيبًا} كافيًا للمخاوفِ فينبغي أنْ لا يُخشى غيرُه، أو محاسبًا على الصَّغيرةِ والكبيرةِ فيجبُ أنْ يكونَ حقُّ الخشيةِ منْهُ تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ} أي ما صح وما استقام في الحكمة أن يكون له حرج {فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي قسم له صلى الله عليه وسلم وقدر من قولهم: فرض له في الديوان كذا، ومنه فروض العساكر لما يقطعه السلطان لهم ويرسم به، وقال قتادة: أي فيما أحل له، وقال الحسن: فيما خصه به من صحة النكاح بلا صداق، وقال الضحاك: من الزيادة على الأربع {سُنَّةَ الله} أي سن الله تعالى ذلك سنة فهو مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، والجملة مؤكدة لما قبلها من نفي الحرج، وذهب الزمخشري إلى أنه اسم موضوع موضع المصدر كقولهم: تربًا وجندلًا أي رغمًا وهوانًا وخيبة، وكأنه لم تثبت عنده مصدريته، وقيل منصوب بتقدير الزم ونحوه.
قال ابن عطية: ويجوز أن يكون نصبًا على الإغراء كأنه قيل: فعليه سنة الله.
وتعقبه أبو حيان بأنه ليس يجيد لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضًا تقدير فعليه سنة الله بضمير الغائب لا يجوز إذ لا يغري غائب وقولهم عليه رجلًا ليسني مؤول وهو مع ذلك نادر.
واعترض بأن قوله: لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ممنوع، وهو خلاف ما يفهم من كتب النحو وبأن ما ذكره في أمر إغراء الغائب مسلم لكن يمكن توجيهه كما لا يخفى، ثم قيل: إن ظاهر كلام ابن عطية يشعر بأن النصب بتقدير الزم قسيم للنصب على الإغراء وليس كذلك بل هو قسم منه اه فتدبر.
{فِى الذين خَلَوْاْ} أي مضوا {مِن قَبْلُ} أي من قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث لم يحرج جل شأنه عليهم في الإقدام على ما أحل لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي أنه كان له عليه السلام ألف امرأة، والظاهر أنه عنى بالمرأة ما يقابله السرية ويحتمل أنه أراد بها الأعم فيوافق ما قبله.
يروى أن اليهود قاتلهم الله تعالى عابوه وحاشاه من العيب صلى الله عليه وسلم بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: {سُنَّةَ الله} الآية.
وقيل: إنه جل وعلا أشار بذلك إلى ما وقع لداود عليه السلام من تزوجه امرأة أوريا.
وأخرج ذلك ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج، واسم تلك الامرأة عنده أليسية وهذا مما لا يلتفت إليه، والقصة عند المحققين لا أصل لها {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} أي عن قدر أو ذا قدر ووصفه بمقدور نحو وصف الظل بالظليل والليل بالأليل في قولهم ظل ظليل وليل أليل في قصد التأكيد، والمراد بالقدر عند جمع المعنى المشهور للقضاء وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، وجوز كونه بالمعنى المشهور له وهو إيجاد الأشياء على قدر مخصوص وكمية معينة من وجوه المصلحة وغيرها، والمعنى الأول أظهر، والقضاء والقدريستعمل كل منهما بمعنى الآخر وفسر الأمر بنحو ما فسر به فيما سبق.
وجوز أن يراد به الأمر الذي هو واحد الأوامر من غير تأويل ويراد أن أتباع أمر الله تعالى المنزل على أنبيائه عليهم السلام والعمل بموجبه لازم مقضي في نفسه أو هو كالمقضي في لزوم إتباعه، ولا يخفى تكلفه، وظاهر كلام الإمام اختيار أن الأمر واحد الأمور وفرق بين القضاء والقدر بما لم نقف عليه لغيره فقال ما حاصله.
القضاء ما يكون مقصودًا له تعالى في الأصل والقدر ما يكون تابعًا والخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر كالزنا والقتل ثم بنى على ذلك لطيفة وهو أنه لما قال سبحانه: {زوجناكها} الأحزاب: 37 ذيله بأمرًا مفعولًا لكونه مقصودًا أصليًا وخيرًا مقضيًا ولما قال جل شأنه: {سُنَّةَ الله في الذين خَلَوْاْ} إشارة إلى قصة داود عليه السلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال سبحانه: {قَدَرًا مَّقْدُورًا} لكون الافتتان شرًا غير مقصود أصلي من خلق المكلف، وفيه ما فيه، والجملة اعتراض وسط بين الموصولين الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفي الحرج وتحقيقه.
{الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله} صفة للذين خلوا أو هو في محل رفع أو نصب على إضمارهم أو على المدح.
وقرأ عبد الله: {بَلَغُواْ} فعلًا ماضيًا، وقرأ أبي {رِسَالَةَ} على التوحيد لجعل الرسالات المتعددة لاتفاقها في الأصول وكونها من الله تعالى بمنزلة شيء واحد وإن اختلفت أحكامها {وَيَخْشَوْنَهُ} أي يخافونه تعالى في كل ما يأتون ويذرون لاسيما في أمر تبليغ الرسالة {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله} في وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الاحتراز عن لائمة الناس من حيث أن إخوانه المرسلين لم تكن سيرتهم التي ينبغي الاقتداء بها ذلك، وهذا كالتأكيد لماتقدم من التصريح في قوله سبحانه: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} الأحزاب: 7 3 وتوهم بعضهم أن منشأ التعريض توصيف الأنبياء بتبليغ الرسالات وحمل الخشية على الخشية في أمر التبليغ لوقوعها في سياقه وفيه ما لا يخفى {وكفى بالله حَسِيبًا} أي كافيًا للمخاوف أو محاسبًا على الكبائر والصغائر من أفعال القلب والجوارح فلا ينبغي أن يخشى غيره، والإظهار في مقام الإضمار لما في هذا الاسم الجليل ما ليس في الضمير، واستدل بالآية على عدم جواز التقية على الأنبياء عليهم السلام مطلقًا، وخص ذلك بعض الشيعة في تبليغ الرسالة وجعلوا ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذه القصة المشار إليه بقوله تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} بناء على أن الخشية فيه بمعنى الخوف لا على أن المراد الاستحياء من قول الناس تزوج زوجة ابنه كما قاله ابن فورك من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة، ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وإساءة الظن وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ، ولهم في التقية كلام طويل وهي لأغراضهم ظل ظليل، والمتتبع لكتب الفرق يعرف أن قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط وإن أهل السنة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط وهو الطريق الأسلم الأمين سالكه من الخطأ والغلط، أما الإفراط فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا على ما حكى عنهم إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأما التفريط فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلًا، وللخوارج تشديدات عجيبة في هذا الباب، وقد سبوا وطعنوا بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه رضي الله تعالى عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفًا من أن يهرب.